الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{مُتَّكِئِينَ} حال والعامل فيه ما دل عليه قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ} [الرحمن: 74] وذلك في قوة الاستثناء كأنه قال: لم يطمثهن إلا المؤمنون فإنهم يطمثوهن متكئين وما ذكرنا من قبل في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 54] يقال هنا.المسألة الثانية:الرفرف إما أن يكون أصله من رف الزرع إذا بلغ من نضارته فيكون مناسبًا لقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] ويكون التقدير أنهم متكئون على الرياض والثياب العبقرية، وإما أن يكون من رفرفة الطائر، وهي حومة في الهواء حول ما يريد النزول عليه فيكون المعنى أنهم على بسط مرفوعة كما قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] وهذا يدل على أن قوله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أنهما دونهما في المكان حيث رفعت فرشهم، وقوله تعالى: {خُضْرٍ} صيغة جمع فالرفرف يكون جمعًا لكونه اسم جنس ويكون واحده رفرفة كحنظلة وحنظل والجمع في متكئين يدل عليه فإنه لما قال: {مُتَّكِئِينَ} دل على أنهم على رفارف.المسألة الثالثة:ما الفرق بين الفرش والرفرف حيث لم يقل: رفارف اكتفاء بما يدل عليه قوله: {مُتَّكِئِينَ} وقال: {فُرُشٍ} ولم يكتف بما يدل عليه ذلك؟ نقول: جمع الربا عي أثقل من جمع الثلاثي، ولهذا لم يجيء للجمع في الربا عي إلا مثال واحد وأمثلة الجمع في الثلاثي كثيرة وقد قرىء: (على رفارف خضر)، و(رفارف خضار وعباقر).المسألة الرابعة:إذ قلنا: إن الرفرف هي البسط فما الفائدة في الخضر حيث وصف تعالى ثياب الجنة بكونها خضرًا قال تعالى: {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان: 21] نقول: ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر، وسبب الميل إليه هو أن الألوان التي يظن أنها أصول الألوان سبعة وهي الشفاف وهو الذي لا يمنع نفوذ البصر فيه ولا يحجب ما وراءه كالزجاج والماء الصافي وغيرهما ثم الأبيض بعده ثم الأصفر ثم الأحمر ثم الأخضر ثم الأزرق ثم الأسود والأظهر أن الألوان الأصلية ثلاثة الأبيض والأسود وبينهما غاية الخلاف والأحمر متوسط بين الأبيض والأسود فإن الدم خلق على اللون المتوسط، فإن لم تكن الصحة على ما ينبغي فإن كان لفرط البرودة فيه كان أبيض وإن كان لفرط الحرارة فيه كان أسود لكن هذه الثلاثة يحصل منها الألوان الآخر فالأبيض إذا امتزج بالأحمر حصل الأصفر يدل عليه مزج اللبن الأبيض بالدم وغيره من الأشياء الحمر وإذا امتزج الأبيض بالأسود حصل اللون الأزرق يدل عليه خلط الجص المدقوق بالفحم وإذا امتزج الأحمر بالأسود حصل الأزرق أيضًا لكنه إلى السواد أميل، وإذا امتزج الأصفر بالأزرق حصل الأخضر من الأصفر والأزرق وقد علم أن الأصفر من الأبيض والأحمر والأزرق من الأبيض والأسود والأحمر والأسود فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأصلية فيكون ميل الإنسان إليه لكونه مشتملًا على الألوان الأصلية وهذا بعيد جدًا والأقرب أن الأبيض يفرق البصر ولهذا لا يقدر الإنسان على إدامة النظر في الأرض عند كونها مستورة بالثلج وإنه يورث الجهر والنظر إلى الأشياء السود يجمع البصر ولهذا كره الإنسان النظر إليه وإلى الأشياء الحمر كالدم والأخضر لما اجتمع فيه الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض وحصل اللون الممتزج من الأشياء التي في بدن الإنسان وهي الأحمر والأبيض والأصفر والأسود ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر ذكر الله تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا.المسألة الخامسة:العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن فالثياب المعمولة عملًا جيدًا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها كأنها ليست من عمل الإنس، ويستعمل في غير الثياب أيضًا حتى يقال للرجل الذي يعمل عملًا عجيبًا: هو عبقري أي من ذلك البلد قال صلى الله عليه وسلم في المنام الذي رآه: «فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه» واكتفى بذكر اسم الجنس عن الجمع ووصفه بما توصف به الجموع فقال حسان: وذلك لما بينا أن جمع الربا عي يستثقل بعض الاستثقال، وأما من قرأ: {عباقري} فقد جعل اسم ذلك الموضع عباقر فإن زعم أنه جمعه فقد وهم، وإن جمع العبقري ثم نسب فقد التزم تكلفًا خلاف ما كلف الأدباء التزامه فإنهم في الجمع إذا نسبوا ردوه إلى الواحد وهذا القارئ تكلف في الواحد ورده إلى الجمع ثم نسبه لأن عند العرب ليس في الوجود بلاد كلها عبقر حتى تجمع ويقال: عباقر، فهذا تكلف الجمع فيما لا جمع له ثم نسب إلى ذلك الجمع والأدباء تكره الجمع فيما ينسب لئلا يجمعوا بين الجمع والنسبة.{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} وفيه مسائل:المسألة الأولى:في الترتيب وفيه وجوه أحدها: أنه تعالى لما ختم نعم الدنيا بقوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] ختم نعم الآخرة بقوله: {تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام} إشارة إلى أن الباقي والدائم لذاته هو الله تعالى لا غير والدنيا فانية، والآخرة وإن كانت باقية لكن بقاؤها بإبقاء الله تعالى ثانيها: هو أنه تعالى في أواخر هذه السور كلها ذكر اسم الله فقال في السورة التي قبل هذه: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] وكون العبد عند الله من أتم النعم كذلك هاهنا بعد ذكر الجنات وما فيها من النعم قال: {تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام} إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى، وأكمل اللذات ذكر الله تعالى، وقال في السورة التي بعد هذه: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ثم قال تعالى في آخر السورة: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} [الواقعة: 96] ثالثها: أنه تعالى ذكر جميع الذات في الجنات، ولم يذكر لذة السماع وهي من أتم أنواعها، فقال: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يسمعون ذكر الله تعالى.المسألة الثانية:أصل التبارك من البركة وهي الدوام والثبات، ومنها بروك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون فيها دائمًا وفيه وجوه أحدها: دام اسمه وثبت وثانيها: دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير وثالثها: تبارك بمعنى علا وارتفع شأنًا لا مكانًا.المسألة الثالثة:قال بعد ذكر نعم الدنيا: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} [الرحمن: 27] وقال بعد ذكر نعم الآخرة: {تبارك اسم رَبّكَ} لأن الإشارة بعد عد نعم الدنيا وقعت إلى عدم كل شيء من الممكنات وفنائها في ذواتها، واسم الله تعالى ينفع الذاكرين ولا ذاكر هناك يوحد الله غاية التوحيد فقال: ويبقى وجه الله تعالى والإشارة هنا، وقعت إلى أن بقاء أهل الجنة بإبقاء الله ذاكرين اسم الله متلذذين به فقال: {تبارك اسم رَبّكَ} أي في ذلك اليوم لا يبقى اسم أحد إلا اسم الله تعالى به تدور الألسن ولا يكون لأحد عند أحد حاجة بذكره ولا من أحد خوف، فإن تذاكروا تذاكروا باسم الله.المسألة الرابعة:الاسم مقحم أو هو أصل مذكور له التبارك، نقول: فيه وجهان أحدهما: وهو المشهور أنه مقحم كالوجه في قوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} يدل عليه قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنين: 14] و: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1] وغيره من صور استعمال لفظ تبارك وثانيهما: هو أن الاسم تبارك، وفيه إشارة إلى معنى بليغ، أما إذا قلنا: تبارك بمعنى علا فمن علا اسمه كيف يكون مسماه وذلك لأن الملك إذا عظم شأنه لا يذكر اسمه إلا بنوع تعظيم ثم إذا انتهى الذاكر إليه يكون تعظيمه له أكثر، فإن غاية التعظيم للاسم أن السامع إذا سمعه قام كما جرت عادة الملوك أنهم إذا سمعوا في الرسائل اسم سلطان عظيم يقومون عند سماع اسمه، ثم إن أتاهم السلطان بنفسه بدلًا عن كتابه الذي فيه اسمه يستقبلونه ويضعون الجباه على الأرض بين يديه، وهذا من الدلائل الظاهرة على أن علو الاسم يدل على علو زائد في المسمى، أما إن قلنا: بمعنى دام الخير عنده فهو إشارة إلى أن ذكر اسم الله تعالى يزيل الشر ويهرب الشيطان ويزيد الخير ويقرب السعادات، وأما إن قلنا: بمعنى دام اسم الله، فهو إشارة إلى دوام الذاكرين في الجنة على ما قلنا من قبل.المسألة الخامسة:القراءة المشهورة ههنا: {ذِى الجلال} وفي قوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجلال} لأن الجلال للرب، والاسم غير المسمى، وأما وجه الرب فهو الرب فوصف هناك الوجه ووصف هاهنا الرب، دون الاسم ولو قال: ويبقى الرب لتوهم أن الرب إذا بقي ربًا فله في ذلك الزمان مربوب، فإذا قال وجه أنسى المربوب فحصل القطع بالبقاء للحق فوصف الوجه يفيد هذه الفائدة، والله أعلم.والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه. اهـ.
.قال ابن عطية: وقوله تعالى: {ومن دونهما جنتان}.اختلف الناس في معنى: {من دونهما}، فقال ابن زيد وغيره معناه: أن هذين دون تينك في المنزلة والقدرة، والأوليان جنتا السابقين، والأخريان جنتا أصحاب اليمين. قال الرماني قال ابن عباس: الجنات الأربع للخائف {مقام ربه} [الرحمن: 46]. وقال الحسن الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين. وقال ابن عباس، المعنى: هما دونهما في القرب إلى المنعمين وهاتان المؤخرتان في الذكر أفضل من الأوليين، يدل على ذلك أنه وصف عيني هذه بالنضخ والأخريين بالجري فقط، وجعل هاتين مدهامتين من شدة النعمة، والأوليين ذواتي أفنان، وكل جنة ذات أفنان وإن لم تكن مدهامة.قال القاضي أبو محمد: وأكثر الناس على التأويل الأول، وهذه استدلالات ليست بقواطع. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: جنتان للمقربين من ذهب، وجنتان لأهل اليمين من فضة مما دون الأولين.و: {مدهامتان} معناه قد علا لونهما دهمة وسواد في النضرة والخضرة، كذا فسره ابن الزبير على المنبر، ومنه قوله تعالى: {الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 5]، والنضاخة الفوارة التي يهيج ماؤها. وقال ابن جبير المعنى: {نضاختان} بأنواع الفواكه، وهذا ضعيف. وكرر النخل والرمان لأنهما ليسا من الفواكه. وقال يونس بن حبيب وغيره: كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفًا لهما وإشادة بهما كما قال تعالى: {وجبريل وميكال} [البقرة: 98].{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)}.{خيرات} جمع خيرة، وهي أفضل النساء، ومنه قول الشاعر أنشده الطبري: الكامل:وقالت أم سلمة: «قلت يا رسول الله: أخبرني عن قوله تعالى: {خيرات حسان} قال: {خيرات} الأخلاق {حسان} الوجوه».وقرأ أبو بكر بن حبيب السهمي: {خيِّرات حسان} بشد الياء المكسورة. وقرأ أبو عمرو بفتح الياء.وقوله: {مقصورات} أي محجوبات. وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت، ومنه قول الشاعر أبو قيس بن الأسلت: الطويل: يصف أن جارتها يزرنها ولا تزورهن. ويروى أن بيت الأعشى قد ذم وهو قوله: البسيط: فقيل في ذمه: هذه جوالة خراجة ولاجة، ومن مدح القصر قول كثير: الطويل: قال الحسن: {مقصورات في الخيام} ليس بطوافات في الطرق، و{الخيام}: البيوت من الخشب والثمام وسائر الحشيش، وهي بيوت المرتحلين من العرب، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ. وقال عمر بن الخطاب: هي در مجوف. ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان بيت المسكين عند العرب من شعر فهو بيت، ولا يقال له خيمة، ومن هذا قول جرير: الوافر:
|